فوائد وهدايات من محاضرة ( الوصايا العشر المحكمات ) الشيخ خالد السبت
مقدمة
1- نزلت سورة الأنعام جملة واحدة في مكة .
2- موضوعات السور المكية : تقرير قضية التوحيد
والإيمان بالله تعالى ، وانفراد الله بالتشريع، وتقرير الإيمان باليوم الآخر ، وهي
القضايا التي يشغب حولها المشركون .
3- جاءت هذه الوصايا العشر في ثنايا هذه السورة ،
حينما رد الله عليهم ، وبيّن جهالات هؤلاء في التحريم والتحليل .
4- هذه الوصايا العشر جاءت في ثلاث آيات
5- قيل لها المحكمات ؛ باعتبار أنها أصول يرجع لها
غيرها، وهي ام تُنسخ ، ولا يتطرق لها النسخ ، لأن النسخ لا يتطرق للأصول الكبار
6- ذكر أهل العلم أن هذه الوصايا العشر المحكمات هي
في شرائع جميع الأنبياء ، ومما اتفق عليه الرسل في شرائعهم
7- جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه " من سره أن
يقرأ وصية محمد (رسول الله ﷺ ) التي عليها خاتمه ، فليقرأ هذه الآيات ( قل تعالوا
أتلُ ما حرّم عليكم ربكم ) إلى قوله ( لعلكم تتقون )"
9- {قل تعالوا } :السورة مكية ، فالخطاب لجميع
الناس، ويدخل فيهم المشركون
10- {قل تعالوا }
هذا الأمر موجه للنبي ﷺ باعتبار أنه المبلغ عن
ربه ، وهذا دليل على أن الرسول ﷺ عبد لله ، يمتثل أمره ، وينقاد له كل الانقياد ،
وليس مشرعا من عند نفسه ، بل يوحى إليه
11- في قوله {تعالوا } عدة معان ٍ:
فهو يدعى به من كان بعيدا ، فلما كان هؤلاء في
حال من البعد لأنهم على الإشراك ، كأنهم في ناحية بعيدة عن الهدى
12- يؤخذ منها أن الهداية إنما تأتي لمن أقبل عليها (
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ، أي كان له قلب وقاد ، وألقى السمع ، فهو يقصد
الاستماع مع حضور القلب، أما الذين يعرضون وينأون بأنفسهم فقد أصم الله أسماعهم ،
وأعمى أبصارهم ، وجعل على قلوبهم أكنة وأقفالا ، فلا يصل إليها من الهدى شيء
13- أيضا تدل على الارتفاع والعلو ، فمن يأتي للهدى
يصعد ويرتفع ، فإذا كان الإنسان متبعا لهوى نفسه والشيطان ، فإنه ينسفل ، لذلك قال
الله تعالى ( قد أفلح من زكاها ) فالزكاء فيه معنى النماء ، ( وقد خاب من دساها )
فالدّسّ والتدسية يدل على هبوط وانخفاض وضعة ، وهكذا تفعل الذنوب والآثام والجرائم
والشرك تدسّ صاحبها ، فمن أراد أن يرتقي ويعلو ويسمو ، فإن عليه أن يقبل على هذا
الهدى الكامل .
14- {أتلُ } التلاوة هنا بمعنى القراءة ، لأن القارئ
يتبع الألفاظ ، وهي في مواضع أخرى تكون بمعنى التلاوة والاتباع { واتلُ ما أوحي
إليك من كتاب ربك }
15- لاحظ في هذه الآية ( أتل ما حرم ربكم عليكم ) وفي
دعاء إبراهيم عليه السلام ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) فذكر
التلاوة أولا ، لأنها أول درجة ومرحلة وممارسة ، التلاوة التي يحصل بها البلاغ .
16- الوصية تقال لما يكون من الأمر والنهي المؤكد .
17- (أتل ما حرم ربكم ) ينبغي على الإنسان أن يقبل
على كتاب الله فيتلوه ، ويكون له ورد في يومه وليلته لا يفرط فيه
18- ينبغي على الدعاة أن يتلوا على الناس كتاب الله
تعالى ويبينوا لهم ما حرم عليهم وما شرع
19- تأمل التعبير بقوله ( ربكم ) ذكر اسم الرب في
غاية المناسبة ، لأن من معانيه الذي يتصرف بخلقه ، فيأمر وينهى ويشرع ، ويحلل
ويحرم . وهم يقرون بالربوبية ، فكان إلزاما لهم بما وراء ذلك من الانقياد لكونه هو
المشرع وحده
،المعبود وحده دون سواه
20- التعبير بقوله ( حرم ربكم عليكم ) قال بعض أهل
العلم : لما قُصد به الذين يعبثون بالتحريم والتحليل ، ويشركون به غيره ، جاء في
هذا السياق ( حرم ربكم ) ، وفي سورة الإسراء كان المقصود أهل الإيمان فجاء التعبير
بقوله ( وقضى ربك ) أي حكم ووصى .
هذه الوصايا العشر في سورة الأنعام كلها من قبيل
المنهيات ، إلا الوصية الثانية ( وبالوالدين إحسانا ) والأخيرة ( وأن هذا صراطي
مستقيما فاتبعوه )
الوصية الاولى :
21- تأمل بداية الوصايا ( ألا تشركوا به شيئا ) : بدأ
بقضية التوحيد لأنها أصل الأصول ، وعليها مدار الفلاح ، وكل ما يذكر بعدها فهو
متفرع عنها
22- جاء الحديث عن التوحيد بالنهي عن الشرك ، وهذا
يستلزم الأمر بضده وهو توحيد الله تعالى ، بينما جاء الأمر بالتوحيد في وصايا سورة
الإسراء صريحا ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه )
23- {ألا تشركوا به شيئا } شيئا : نكرة في سياق النهي
، تدل على العموم ، أي لا تشركوا به شركا قليلا أو كثيرا ، ويدخل فيه كل أنواع
الشرك : الأكبر والأصغر والخفي ، وشرك الربوبية والألوهية والأسماء والصفات
24- إذا كان التوحيد من أهم المهمات وأول المطالب
وأول دعوة الرسل ، فينبغي أن يكون هو الأول فيما يوجه للناس ، وما يُدعون إليه
الوصية الثانية :
25- {وبالوالدين إحسانا }
لم يقل لا تعقوا الوالدين ، كما في الوصايا ،
فجاء بصيغة الأمر لا النهي ، وهذا له دلالة والله أعلم لأنه وضع في موضع الأمر
للمبالغة ، وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما لا يكفي ، بل لابد من كف الأذى
بأنواعه وإن قلّ، مع البر والحفظ وامتثال الأمر
{إحسانا } عبر بالمصدر وأطلقه ، فلم يقل إحسانا
بالقول أو الفعل أو المال ، ليشمل كل أنواع الإحسان . فيدل على كمال الإحسان وأنه
إحسان عظيم .
26- الأمر بالإحسان للوالدين يستلزم ترك الإساءة لهما
، فصار ذلك بدلالة اللزوم
جاء الأمر بالإحسان للوالدين بعد التوحيد ، وهذا
يتكرر في القرآن ، فالله هو الذي أوجدنا من عدم ، والوالدان هما سبب الوجود في هذه
الحياة ، وهذا الحق متقرر ثابت وإن كان الأبوان غاية التقصير
27- {وبالوالدين إحسانا } عداه بحرف الباء ، وقد
يعدّى بإلى ، والتعدية بالباء أبلغ ، وكأن ذلك الإحسان قد تغلغل في نفسه ، وكان
أعمق وألصق ، فلم يكتف أن يوصل الإحسان إليهما .
الوصية الثالثة :
{ولا تقتلوا أولادكم من إملاق }
28- لما ذكر ﷻ حق الله ثم حق الوالدين ، ذكر حق
الأقرب إلى الإنسان وهم أولاده
29- هذا النهي يفيد التحريم ، وجاء بعده فعل مضارع ،
فهذا التركيب يفيد العموم ، أي لا يحل قتلهم بحال من الأحوال
30- الأولاد
لفظ يشمل الذكور والإناث ، والمعروف أن العرب كانوا يقتلون الإناث
31- ذكر علة القتل { من إملاق } ، وهو الفقر ، يقال
:أملق أي افتقر ، كأنه لم يبقَ معه إلا الملقات وهي الصخور والحجارة الملساء التي
ليس فيها شيء
32- الله تعالى ذكر العلة وهي الفقر ، والمعروف أن
العرب كانوا يقتلون بناتهم خشية العار ، فهل هناك منافاة ؟
الجواب لا ، لأنهم كانوا يقتلون بناتهم خشية أن
تفتقر فتضطر بسبب الفقر أن تبيع عرضها ، وتواقع الفاحشة، وهي غيرة جاهلية مذمومة
33- لما كان سبب القتل { من إملاق } أي فقر واقع ،
قدم الله ﷻ رزق الآباء { نحن نرزقكم وإياهم } وفي سورة الإسراء لما كان الفقر
متوقعا { خشية إملاق } إذا كثر الأولاد ، قدم رزق الأولاد { نحن نرزقهم وإياكم }
وقد أخذ منه بعض أهل العلم أن الأبناء يكونون
سببا للرزق
34- لما كان الخطاب في الآية للجميع ، ويدخل فيه
الكفار ، دل ذلك على أن رزق الله لا يخلو منه أحد ، فالكفار تنالهم أرزاق الله عز
وجل {وما بكم من نعمة فمن الله }
35- ذكر قتل الأولاد على وجه الخصوص لانه من أشنع
الذنوب
36- في {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ، بمفهوم
المخالفة : هل يقال إذا كان قتلهم من غير إملاق فإن ذلك سائغ ؟ الجواب : لا
فهذا من المواضع التي لا يعتبر فيها مفهوم
المخالفة ، فإن الآيات إذا نزلت على وفاق واقع معين ، فإن مفهوم المخالفة لا يكون
حجة
مثل ذلك { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن
تحصنا } فلا يجوز إكراههن إن كن يردن البغاء
الوصية الرابعة
{ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }
37- الفواحش جمع فاحشة وهي الذنب العظيم ، وما اشتد
قبحه من الذنوب والمعاصي
38- قيل الفواحش : الزنا
ما ظهر منها : الإعلان به ، وما بطن : الإسرار
وقيل
ما ظهر : الخمر ونكاح المحرمات ، وما بطن : الزنا
وقيل
ما ظهر : الخمر وما بطن : الزنا
وقيل عام في الفواحش المعلنة وما كان سرا
وقيل : ما ظهر من أفعال الجوارح ، وما بطن : من
أفعال القلوب
وقيل : ما ظهر : البغاء ، وما بطن : اتخاذ الخلان
39- {ولا تقربوا } النهي للتحريم ، وهذا التركيب مع
لا الناهية يفيد العموم ، والعموم يتوجه لأربعة أمور : عموم الأفراد، وعموم
الأحوال ، وعموم الأمكنة ، وعموم الأزمنة
40- {ولا تقربوا } لم يقل : لا تأتوا أو تمارسوا ،
فالنهي عن القربان يدل على المباعدة ، فهو نهي عن كل ذريعة توصل إليه
فما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام وتركه واجب
41- قوله { ما ظهر منها } قد يحترز الإنسان من مقارفة
الفواحش الظاهرة ، إما خوفا من الناس أو حياء منهم ، أو من أجل سمعة الأسرة
والعائلة، أو خوفا على منصب ، ونحو ذلك ، لكنه يفعله سرا ، فهنا تربية إيمانية
عميقة
42- {وما بطن } فيه دعوة لتطهير الباطن من كل الآفات
، كالرياء والسمعة ، وحب الظهور والشهرة ، والتوكل على غير الله ، وسوء الظن بالله
كل الأشياء المذكورة في الآية هي من الموبقات
الوصية الخامسة :
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق }
43- هذا أيضا نهي يدل على التحريم ، والتركيب يدل على
العموم ، فلا يحل قتل نفس أي نفس ، على أي حال ، في أي زمان ، وأي مكان ، إلا ما
استثناه الله ﷻ
قتل النفس داخل في عموم الفواحش ، فهو من الذنوب
العظام ، وإنما خص لشناعته وشدته
44- {إلا بالحق } فلا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث :
الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة
45- ملاحظة : المنهيات التي تميل لها النفس وتدخل
فيها الأهواء والشهوات ، يأتي النهي عنها بتعبير { ولا تقربوا }
أما غيرها فالنهي فيه مباشرة { ولا تقتلوا }
46- {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } أي يكون سببا
للعقل ، فمن خالف ذلك فهو سفيه
47- قاعدة : الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص
بنقصانه ، فدل ذلك على أن من راعى حدود الله عز وجل ، فهذا أتم وأكمل في عقله ،
وبحسب عقل العبد يكون قيامه بأمر الله عز وجل ومراعاة حدوده
48- كلمة (لعل) في القرآن هي للتعليل ، إلا في موضع
واحد { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } أي كأنكم تخلدون
49- هذا نهي للتحريم ،، ولا الناهية مع الفعل المضارع
تتوجه للعموم : عموم الأفراد والأحوال والأمكنة والأزمنة
50- {ولا تقربوا } جاء النهي بعدم القربان ، لأن ما
فيه طمع جاء النهي عن قربانه ، فإذا كان النهي عن مجرد القربان فهو أبلغ ، وهذا
يدل على رعاية وعناية الشارع بالضعفاء ، وسعة رحمته ، فلا يكون اليتامى عرضة لذوي
النفوس الدنيئة
51- {إلا بالتي هي أحسن } مقال " إلا بالحسن
" ليشمل ذلك الناحيتين الدنيوية والشرعية ، فما كان فيه تثمير للمال مع محرم
أو شبهة فإنه يترك ويلجأ للحلال
52- في الآية دلالة على عناية الشارع باليتيم ، ومن
ثمّ فإنه لا يلي مال اليتيم من كان ضعيفا سواء كان الضعف في العقل والتفكير ، أو
كان الضعف في القدرات باعتلاله ومرضه ، أو ضعف في الوازع الديني
الوصية السابعة
{وأوفوا الكيل والميزان بالقسط}
53- الوفاء بمعنى التكميل ، وقد يدل على معنى الزيادة
، وهذا يدل على النهي عن ضده ، وهو النقص
54- المكاييل والموازين هي التي يكون بها قوام حياة
الناس ومعايشهم ، فإذا حدث التطفيف فإن ذلك ترتفع معه الثقة في التعاملات ، ويكون سببا
لتعريض مصالح الناس للضياع والبخس ، ويؤثر في مروءات الناس
55- {لا نكلف نفسا إلا وسعها}
هذه الشريعة ليس فيها تكليف بما لا يطاق ، فالله
دفع عن هذه الأمة الآصار والأغلال ، وهذا يدل على سعة الشريعة ورحمة الله بالخلق ،
وأنه كلفهم بما يطيقون ، فينبغي للعبد أن يبادر بالقيام بشرائع الدين ، وألا
يستثقل ذلك ، فقد كلفه الله أمورا تدخل في وسعه ، وما كان خارجا عن وسعه فهو معفوّ
عنه
الوصية الثامنة
{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى }
56- هذا الأمر للوجوب ، وليس من التفضل والإحسان
للناس
57- إذا ذكر الله العدل في الأقوال ، كان العدل في
الأفعال والمزاولات من باب أولى
58- {ولو كان ذا قربى } لو يقال عنها وصليّة ، تفيد
المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظن السامع عدم شمول الحكم إياها ، لاختصاصها
من بين الأحوال
الوصية التاسعة
{وبعهد الله أوفوا }
59- أي بوصية الله التي أوصاكم بها ، وهي أن يطيعوه
فيما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأن يعملوا بكتابه ،، وسنة رسوله
60- هذا الوفاء بالعهد يشمل جميع ما عهده الله لعباده
، ويدخل فيه ما يقع بين الناس من عهود فهم مأمورون بحفظها ،وكذلك ما أوجبه الإنسان على نفسه من النذور
61- صفة المستقيم للصراط هي صفة كاشفة وليست مقيدة ،
لأن الصراط في اللغة لا يقال إلا لما كان مستقيما
62- أضاف الله ﷻ الصراط إلى نفسه ( صراطي ) لأنه هو
الذي رسمها وشرّعها
المستقيم : هو القويم الذي لا اعوجاج فيه ، وهو
دين الإسلام واتباع الكتاب والسنة
63- { وأن هذا صراطي } فهو صراط واحد ، فالطريق
الموصل لله واحد ، وهي التي شرعها ، فلا يجوز للإنسان أن يبتدع لنفسه طريقا يعبد
الله بها ، أما السبل فجاءت مجموعة
64- {فاتبعوه} هذا الأمر للوجوب ، فلا نجاة لهم بغيره
65- {ولا تتبعوا السبل } هذا النهي للتحريم ، فيدخل
فيه الأديان والملل غير الإسلام
66- {فتفرق بكم } التعبير بالفاء يدل على ترتيب ما
بعدها على ما قبلها ، وعلى التعقيب المباشر ، وعلى التعليل ، فمن شأن اتباع هذه
السبل أن تؤدي بمتبعها إلى التفرق عن سبيل الله ، والنأي عنه والانحراف والضلال
67- {لعلكم تتقون } أي من أجل أن تتقوا ، وإذا فسرت
بالترجي فيكون ذلك بمعنى " من فعل ذلك وبذل جهدا لعله يكون من المتقين "
، فكيف لمن لم يرفع به رأسا أن يرجو أن يكون متقيا
ما سبب ختم الوصايا العشر المحكمات في سورة
الأنعام بقوله { لعلكم تعقلون } ( لعلكم تذكرون ) { لعلكم تتقون } ؟
68- {لعلكم تتقون } علل بعض أهل العلم هذا الختم لأن
الحديث عن الصراط المستقيم ، فيشمل الشريعة كاملة ( الأوامر والنواهي ) ، فإذا
اتبعها السالك صار متقيا
69- وقيل :
الآية الأولى اشتملت على أمور عظيمة ، والوصية
فيها أبلغ من غيرها ، فختم بأشرف ما في الإنسان وهو عقله { لعلكم تعقلون } ،
والآية الثانية اشتملت على أربع وصايا يقبح ارتكابها ، والوصية بها تجري مجرى
الوعظ والزجر ، فختمها بـ {لعلكم تذكرون } ، والآية الثالثة عن الصراط المستقيم
واتباعه وترك ما يخالفه ، فختمت بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد
70- وقيل : الآية الأولى اشتملت على خمس أمور ظاهرة
يدركها العقل ، ويدرك قبحها ، ويدل عليها النقل ، فختمت بقوله ( لعلكم تعقلون ) ،
أما القضايا الأربعة في الآية الثانية فهي قضايا غامضة ، لا بد لها من الاجتهاد
والفكر ، حتى يقف المرء على موضع الاعتدال فيها ، فهي تؤثر في الأهواء والشهوات
والغرائز ، وهذه تعمي وتصمّ ، فاتبعت بترجي التذكر ، لأن من تذكر أبصر ، فعقل
وامتنع
ولما كانت هذه الوصايا العشر مما اتفقت عليه
الشرائع ، ولم تنسخ في ملة من الملل ، وأن من أخذ بها كان سالكا للصراط المستقيم ،
عقّب ذلك بقوله ( لعلكم تتقون )
71- وأسهل من ذلك وأوضح أن يكون ذلك على سبيل التدرج
، فالإنسان يعقل أولا عن الله ، ثم يحصل له التذكر ، فإذا حصل له التذكر اتقى الله
في نفسه ، فجاءت متدرجة حسب الوقوع
72- كل الآيات ختمت بتكرار {ذلكم وصاكم به } تأكيدا
للوصية ، وتجديدا للعهد
لهذه السورة الكريمة أكثر من عشرين اسما
، وذلك يدل على شرفها ، فإن كثرة الأسماء دالة على شرف المسمى
فاتحة الكتاب :
هو أشهر أسمائها ، ووجه التسمية : أنها
مفتتح القرآن ، وبها تفتتح الصلاة
أم القرآن : وجه تسميتها بذلك : اشتمالها على مقاصد
القرآن
السبع المثاني : قال تعالى ﴿وَلَقَد آتَيناكَ سَبعًا مِنَ
المَثاني وَالقُرآنَ العَظيمَ﴾[الحجر: ٨٧]
ذهب جمهور المفسرين إلى أن السبع المثاني هي سورة الفاتحة
سورة الصلاة :
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي... " الحديث
سورة الحمد : لافتتاحها به ، وغلبته عليها .
لها أسماء وردت في آثار لم يصح سندها ، وإن صح معناها : كالشفاء ، والشافية
ولها أسماء ليس لها أثر ، لكنها معان صحيحة مستنبطة من الآثار : الكافية
، الواقية ، الوافية
عدد آياتها :
سبع آيات بالاتفاق ، ومن شذّ لا يعتد بشذوذه
اختلفوا في الآية التي تكون بها السورة سبعا : قال بعضهم هي البسملة
﴿ ﷽ ﴾ ( قول قراء أهل الكوفة ) ، وقيل : السابعة ﴿ أنعمت عليهم ﴾ ( قول قراء أهل المدينة
)
نزولها :
الذي عليه جمهور أهل العلم وأكثر المفسرين أن سورة الفاتحة نزلت
بمكة ، فهي السبع المثاني التي وردت في سورة الحجر ، ﴿وَلَقَد آتَيناكَ سَبعًا مِنَ
المَثاني وَالقُرآنَ العَظيمَ﴾ ، وسورة الحجر مكية بلا خلاف .
فضلها :
هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي امتن الله على رسوله به ﴿وَلَقَد
آتَيناكَ سَبعًا مِنَ المَثاني وَالقُرآنَ العَظيمَ﴾
نور أوتيه رسول الله ﷺ لحديث " أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي
قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة "
أعظم سورة في القرآن وفي الكتب السماوية كلها لحديث " والذي نفسي
بيده ، ما أنزلت في التوراة ولا في الإنحيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلها
"
ركن من أركان الصلاة لحديث " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
"
مقصد الفاتحة :
هو تحقيق التوجه إلى الله تعالى بكمال العبودية له وحده
، بإثبات استحقاقه لها ، لتفرده بالربوبية ، والإقرار له بالألوهية ، وسؤاله الهداية
اشتملت سورة الفاتحة على جميع مقاصد القرآن :
الثناء على الله بجميع المحامد ، وتنزيهه عن النقائص ، وإثبات تفرده بالألوهية
، وإثبات البعث والجزاء ،في قوله تعالى ﴿الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ الرَّحمنِ
الرَّحيمِ مالِكِ يَومِ الدّينِ
إشارة إلى نوع قصص القرآن في قوله ﴿ غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ﴾
منهج الوسطية في سورة الفاتحة :
رسم القرآن الكريم لنا هذا المنهج في شتى جوانبه ، أصولا وفروعا ، عقيدة
وعبادة ، خلقا وسلوكا ، تصورا وعملا ،
بدأ القرآن في رسم هذا المنهج من بدايته في أم الكتاب ، حيث إنها من أولها
إلى آخرها تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها .
أبرز آية ناطقة بذلك ﴿ اهدِنَا
الصِّراطَ المُستَقيمَ ، صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم
وَلَا الضّالّينَ ﴾ فصراط الذين أنعم الله عليهم هو منهج الوسط ، أما منهج المغضوب
عليهم يمثل التفريط ، بينما يمثل منهج الضالين الإفراط ، فالاستقامة تعني الوسطية ، كما توضحها آية الفاتحة
قال ابن عاشور : هذه السورة وضعت في أول السور ، لأنها تُنزّل منها منزل
ديباجة الخطبة أو الكتاب، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن ... وذلك شأن براعة الاستهلال
.
في افتتاح الكتاب العزيز بها برهان فضلها ورفعة قدرها ، وإشعار بيسر هذا
الدين وقربه من أفهام الخلق ، لأن هذا هو الطابع العام للسورة
في وضعها بداية المصحف ، إشارة أنه ينبغي البدء بالأهم قبل المهم ، وبالأصول
قبل الفروع
سورة الفاتحة شافية لأمراض القلوب والأبدان ، وحاجة القلوب إليها آكد
سورة الفاتحة أولها رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة ، والنعمة الحقيقية
تكون بالرحمة والهداية
تختص سورة الفاتحة أنها سورة المناجاة ، حيث يقرؤها المسلم في كل ركعة
من صلاته .
سورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن ، ولم ينزل الله مثلها في كتبه
تدبر سورة الفاتحة يوصل لمرتبة الإحسان ، حيث إن أول طريق لإحسان العبادة
هو أن يجمع المرء قلبه خال قراءة الفاتحة
اشتملت سورة الفاتحة على أعظم المقاصد : تحقيق كمال العبودية لله تعالى
تقرير توحيد الله بأنواعه : الربوبية والألوهية والأسماء والصفات
إثبات النبوة
أقسام الخلق
إثبات اليوم الآخر
تقرير الإيمان بالقدر ، بإثبات أن هداية القلوب لله وحده
أصول الأحكام : في الإقرار بالعبودية التامة لله
أصول الأخبار : لأن أخبار القرآن جاءت في بيان أقسام الخلق
الثلاثة :قسم عرفوا الحق وحادوا ، قسم جهلوا الحق
، وهم الضالون ، وقسم عرفوا الحق وعملوا به وهم المنعم عليهم
تظهر السورة سبق رحمة الله تعالى لغضبه ،
فقد ذكر تعالى رحمته في اسمي
﴿ الرحمن الرحيم ﴾ في البسملة ، ثم كررهما في بداية السورة ، قبل أن يذكر المغضوب عليهم
.
في سورة الفاتحة أركان التعبد القلبية :
المحبة في ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾
الرجاء في ﴿ الرحمن الرحيم ﴾
الخوف في ﴿ مالك يوم الدين ﴾
في سورة الفاتحة شرطي قبول العبادة
الإخلاص : في قوله تعالى ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ ، فتقديم المعمول
يفيد الحصر
المتابعة : لأن الله لا يقبل العمل إلا إذا كان على الصراط المستقيم ،
وهو صراط الذي أنعم الله عليهم ، وأولهم الأنبياء
في سورة الفاتحة ستة من أسماء الله الحسنى :
الله
الرب
الرحمن
الرحيم
مالك
الملك ( في قراءة سبعية أخرى )
في سورة الفاتحة أصول الأسماء الحسنى
الله : متضمن لصفات الألوهية
الرب : متضمن لصفات الربوبية
الرحمن : متضمن لصفات البر والجود والكرم
ذكر في سورة الفاتحة أعظم وأولى ما يذكر في موضعه :
الحمد : أكمل أنواع العبادة
الله : أعظم الأسماء الحسنى وأشملها
رب العالمين : أعظم دلائل قدرته وكماله واستحقاقه للعبادة
الرحمة : أقوى متعلق للعبد
مالك يوم الدين : أكبر مظاهر ربوبيته الشاملة
يوم الدين : أعظم الأيام
إياك نعبد : أعظم حقوق الله
إياك نستعين : أعظم حظوظ العبد
اهدنا الصراط المستقيم : أعظم الأدعية
الذين أنعمت عليهم : أفضل الناس
المغضوب عليهم / الضالين : أكثر الفرق ابتعادا عن الحق
في سورة الفاتحة بيان لأهمية الدعاء وشدة حاجة المسلم إليه ، ولذلك افتتح
الله تعالى كتابه في أول سورة منه بالدعاء، كما ختم به آخر سورة
في سورة الفاتحة آداب الدعاء :
الإخلاص ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾
المتابعة ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ... ﴾ الآية
الإلحاح فيه ؛ فسورة الفاتحة تقرأ في كل ركعة
الجزم في الدعاء والعزم فيه ؛ وذلك بطلب الهداية ورجائها ﴿ اهدنا الصراط
المستقيم ﴾
حضور القلب وعدم الغفلة ، وذلك من جهة تهيئ الداعي بالثناء على الله ،
والإقبال عليه
الدعاء للآخرين ، وإذا دعا المسلم لأخيه وكّل الله ملكا يقول له : ولك
بمثل
الدعاء بجوامع الكلم ، فقد جمع دعاء سورة الفاتحة خيري الدنيا والآخرة
الجمع بين الخوف والرجاء ، فيطلب النعمة ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ، صراط
الذين أنعمت عليهم ﴾
ويستدفع النقمة ﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾
يستحب للداعي أن يكون على طهارة ، وهو شرط في الصلاة
أن يقدم بين يدي دعائه التوبة ، كما في بعض أدعية الاستفتاح قبل قراءة
الفاتحة
سورة الفاتحة تخلية وتحلية :
تخلية من طريق الشيطان ( الاستعاذة ) إلى تحلية بالإنصراف لله رب العالمين
﴿ ﷽ ﴾
تخلية من الكفر إلى تحلية بالشكر والحمد ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾
تخلية من اليأس إلى تحلية بالثقة برحمة الله ﴿ الرحمن الرحيم ﴾
تخلية من الغفلة إلى تحلية باليقظة والاستعداد لليوم الآخر ﴿ مالك يوم
الدين ﴾
تخلية من الشرك إلى تحلية بإخلاص العبادة ﴿ إياك نعبد ﴾
تخلية من العجز إلى تحلية بالاستعانة بالله ﴿ وإياك نستعين ﴾
تخلية من الضلال إلى تحلية بسؤال الهداية ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾
تخلية من الجهل والعناد إلى تحلية بالعلم والاتباع
تخلية من طريق الضلال وأهله إلى تحلية باتباع طريق الهدى وأهله
﴿ ﷽ ﴾
الراجح وهو قول الجمهور أن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة ،
وبناء عليه فقراءتها سنة وليست وواجبة ، والسنة الإسرار بها
في البسملة تنبيه على أن العون التام والبركة إنما تكون من الله تعالى
، فلا تطلب من غيره .
البدء باسم الله رادع للمرء عن معصيته فيما يُقبل عليه ؛ فإن من عرف الله
تعالى استحى أن يبدأ فعله للمعصية باسمه .
على المؤمن أن يسعى بأن تكون أعماله التي يقوم بها في الطيب مجانسة لهذا
التعبير الطيب .
﴿ الرحمن الرحيم ﴾ صفتان للفظ الجلالة ، فيهما الدلالة على الذات والصفة
والأثر
﴿ الرحمن ﴾ ذو الرحمة الواسعة
، دال على الصفة القائمة به سبحانه
﴿ الرحيم ﴾ ذو الرحمة الواصلة ، دال على تعلق الرحمة بالمرحوم .
إذا جيء بـ ﴿ الرحمن ﴾ أو ﴿ الرحيم ﴾ لوحده ، لشمل الوصف والفعل ، لكن
إذا اقترنا فُسّر ﴿ الرحمن ﴾ بالوصف ، و ﴿ الرحيم ﴾ بالفعل
﴿ الرحمن ﴾ أوسع أسماء الله تعالى ، والرحمة أوسع صفاته ، والعرش أوسع
مخلوقاته .
﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ استوى بأوسع صفاته على أوسع مخلوقاته .
كل من استقرت في نفسه سعة رحمة الله ، لا يمكن أن يدب إليه اليأس ولو
مثقال ذرة ، فهو متفائل في سرائه وضرائه .
اختيار هذين الاسمين في استفتاح القرآن يدعو للاطمئنان ، ففيهما الجمال
والتهدئة والسكينة .
في اسمي ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ إشارة إلى ندب الخلق إلى التحلي بصفة الرحمة
.
﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾
الحمد : هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
المدح : مجرد الوصف بالكمال ، دون محبة وتعظيم .
﴿ الحمد ﴾ (( أل )) للاستغراق ، فلله المحامد كلها
اللام في ﴿ لله ﴾ ، للاستحقاق والاختصاص ، فالله تعالى مستحق للحمد ،
مختص به .
الله تعالى يحمد على كمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ويحمد على خلقه
ونعمته ، وعلى وحيه وهدايته ، وعلى قضائه وقدره .
الحمد أخص من الشكر ؛ لأن الحمد
لا يكون إلا باللسان
والشكر أخصّ من الحمد من حيث ما يقع عليه ، فالشكر لا يكون إلا على النعمة
قُدّم وصف الألوهية على وصف الربوبية ، لأن اسم ﴿ الله ﴾ علم له ، فهو
مختص به ، وتتبعه جميع الأسماء
الرب : من اجتمع فيه ثلاثة أوصاف : الخلق والملك والتدبير
﴿ رب العالمين ﴾ دليل على تفرد الله تعالى بالربوبية ، لأن العالمين كل
ما سوى الله
﴿ رب العالمين ﴾ فيه رد على المشركين الذين يؤمنون بالرب لكن يشركون معه
في العبادة ، فما دام ربهم جميعا فلا يستحق أحد العبادة غيره
في الآية إثبات النبوة ، فكونه رب العالمين ، لا يليق به سبحانه أن يترك
خلقه سدى ، لا يعرفهم عبر رسله ما ينفعهم .
فيها الرد على الملاحدة الذين يرون أن العالم ليس له رب ، وهذا مخالف
للعقول .
فيها رد على القدرية والجبرية ، فهو رب العالمين ، وبه يستعان على كل
شيء، وعلى العبد إخلاص العبادة له ، وسؤاله المعونة والهداية .
﴿ الرحمن الرحيم ﴾
في ذكر الاسمين ثناء على الله ، والثناء معناه : تكرير الحمد
لما كان في اتصافه ﷻ برب العالمين ترهيب وتخويف ، أتبعه بالرحمن الرحيم
لما فيه من الترغيب .
تقرر الآية نوعي تربية الله لخلقه :
تربية عامة : لجميع الخلق ، خلقه ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي
فيها بقاؤهم في الدنيا
ويدل عليه اسم ﴿ الرحمن ﴾
تربية خاصة : تربيته لأوليائه بالإيمان ، ويوفقهم له ، ويكمله لهم ، ويدفع
عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
﴿ الرحيم ﴾ على وزن فعيل ، يفيد الديمومة والاستمرار ، بمعنى أن رحمته
بالمؤمنين هي رحمة دائمة مستمرة لا تنقطع أبدا .
قدّم ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ لمعانٍ : أن رحمته ﷻ هي أهم مظاهر ربوبيته ، وأن
رحمته سبقت غضبه ، وأنه خلق الخلق رحمة بهم .
قرن تعالى بين ربوبيته ورحمته ﴿ رب العالمين ، الرحمن الرحيم ﴾ لأن ذكر
الربوبية والرحمة يؤدي إلى الحب ، فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها .
أعظم ما يستدر العبد به رحمة ربه : أن ينكسر بين يديه ، وأن يظهر عبوديته
له وذله وعجزه وفقره
على المربي أن يتحلّى بالرحمة ، فالمصلح ينبغي أن يكون رحيما ،
من تعلّق بصفة من صفاته ﷻ -التي يليق بالعباد التحلي بها - أخذته بيده
حتى تُدخله عليه .
في الآية تقرير لعقيدة الإيمان بالقدر ، لأن الإنسان يرجو رحمة الله تعالى
، وهو يعلم فقره إليه .
في الآية رد على الجهمية والمعتزلة ومنكري الصفات ، وعلى الخوارج الذين
يأخذون بجانب الخوف دون الرجاء .
﴿ مالك يوم الدين ﴾
هذه الآية تمجيد للرب ﷻ ، والتمجيد : التعظيم ، وهو هنا بإفراده بالملك
يومئذ بلا دعوى من أحد
في الآية إثبات اليوم الآخر ، والبعث ، والحساب والجزاء ، والرد على منكريه
ذكر أنه ﴿ مالك يوم الدين ﴾ بعد ذكر كونه ﴿ رب العالمين ﴾ بيان لكونه
تعالى ليس ربا للعالمين في الدنيا فحسب ، بل في الدنيا والآخرة، وأن مقتضى حمده ورحمته
وعدله أن يجازي العاملين على أعمالهم
خُصّ يوم الدين بإضافة الملك إليه ﷻ ، لخطورته وعظمه ، ولأنه ختام الأيام
وثمرتها ، ولأنه يظهر فيه ملك الله كاملا
من فقه اسم الله : المالك ، والملك ، وفهم أن الملك كله لله ، صحّح نظرته
للخلق، وعرف أنهم مهما بلغوا ، ومهما ملكوا من أموال ومناصب وألقاب ، إلا أنهم في حقيقة
أمرهم فقراء عاجزون مملوكون لربهم
الآية تدفعنا إلى أن نخاف الله تعالى في عباده ، وألا نخاف عباده فيه
سُمي يوم القيامة بيوم الدين ، لأنه يوم الجزاء بالعدل ويوم القهر ، ففيه
يدان الناس في الحقوق بعضهم من بعض ، ويدين الله الناس بأعمالهم فيجازيهم عليها
إذا كانت نعم الله تعالى تستحق الحمد ، فإن ملكه ليوم الدين محمدة يستحق
عليها الحمد الكثير ، لأن ملكيته لهذا اليوم هي التي حمت حق كل ضعيف ، وكل مظلوم ظلم
في الدنيا
في الآية إشارة إلى أن الحياتين ( الدنيا والآخرة ) متصلتان في حقيقتهما
، بينهما فاصل هو الموت
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾
هذه الآية سماها بعض العلماء "سر القرآن" فإليها يرجع فعل الإنسان
وهو التعبد، فالدين كله مرجعه إلى هذه الآية
في قوله تعالى ﴿ إياك نعبد ﴾ إثبات النبوة ، فإن طريق التعبد لا يعرف
إلا عن طريق رسله
في قوله ﴿ وإياك نستعين ﴾ إيمان بالقدر ، لأن العبد يطلب العون من الله
القادر على كل شيء، المتصرف كيف يشاء
قدّم المعمول على العامل ولم يقل " نعبدك ونستعين بك " دلالة
على الحصر والمعنى ، نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة ، وفيه الأدب مع الله ، بتقديم
اسمه على فعلهم ، وشدة العناية به
كرر الضمير "إياك" للدلالة على قوة الاقتضاء والتخصيص والاهتمام
في ﴿ إياك نعبد ﴾ إشارة لتحقيق معنى لا إله إلا الله ، فتقديم إياك نفي
: بالكفر بما يعبد من دون الله ، وفي " نعبد " إثبات وإفراده تعالى بالعبادة
الاستعانة الصادقة تجمع أصلين : الثقة بالله ، والاعتماد عليه
قدم العبادة على الاستعانة من باب تقديم المقاصد على الوسائل ، وتقديم
حق الخالق على حق المخلوق
عطف ﴿ إياك نستعين ﴾ على ﴿ إياك نعبد ﴾ يفيد : أن من سعى للخير فحقق العبادة
لله ، فإن الله يحقق له العون
درجات العون والولاية ، تتفاوت بحسب تفاوت الناس في العبادة ، فكلما كان
المرء أكثر تعبدا لله ، حصل له من العون والتأييد ما هو أكثر
في قوله ﴿ وإياك نستعين ﴾ تحقيق لكلمة لا حول ولا قوة إلا بالله
قوله ﴿ إياك نعبد ﴾ علاج للرياء ، لأن فيه تذكير بمقام الإخلاص
﴿ وإياك نستعين ﴾ علاج للكبر ، لأن فيه تذكير بحاجة العبد لربه
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ فيها :
تذكير بأن هذا الدين الحنيف هو الرابطة بين المسلمين ، وقيمة الجماعة
في الإسلام ، والعمل على تقويتها
﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾
جاءت بعد ذكر الاستعانة ؛ فأعظم ما يُستعان بالله تعالى عليه ، الهداية
إلى الصراط المستقيم
﴿ اهدنا ﴾ في فاتحة الكتاب ، دليل على أن كتاب الله كتاب هداية ، فمن
طلب الهدى به هداه الله
في الآية تنبيه على بطلان البدع ووجوب متابعة النبي ﷺ لأن الله لا يقبل
العمل إلا إذا كان وفق الصراط المستقيم
الهداية مما فرض الله تعالى سؤاله وعظّم منته بها ، وهي أجلّ ما يطلب
، ونيلها أشرف ما يوهب
في الآية إشارة إلى إثبات النبوة ، لأن سؤال الله الهداية يستلزم إرسال
الرسل ، لأن هداية الدلالة والإرشاد إلا بإرسال الرسل
في الآية إيمان بالقدر ؛ لأن العبد يطلب الهداية ممن يملكها ، ويعترف
بقدرته عليها
في قوله ﴿ اهدنا ﴾ سؤال الهداية للجميع ، فيه إشارة إلى حرص المؤمن على
الدعوة ، والتفات المسلم لنفسه وإخوانه فيشملهم بالدعاء
سؤال الهداية يتضمن أمرين :
ثبتنا على الصراط المستقيم حتى لا نزيغ وننحرف عنه
قوّ هدايتنا ، فالهداية درجات ، والمهتدون طبقات
﴿ الصراط ﴾ وحّد الصراط لأنه واحد ، وعرّف مرتين : تعريف باللام ﴿ الصراط
﴾ ، وتعريف بالإضافة في الآية التالية ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ ، وذلك يفيد تعيينه
واختصاصه وأنه صراط واحد ، لأن المراد الصراط المعين الذي نصبه
تكرار ذكر الصراط مرتين ، فكأن المؤمنين كرروا طلب الهداية مرتين
الصراط في اللغة ما جمع خمسة أوصاف : أن يكون طريقا مستقيما ، سهلا ،
مسلوكا ، واسعا ، موصلا للمقصود
من سلك الصراط في الدنيا وثبت عليه ، ثبّته الله تعالى على الصراط في
الآخرة حتى يصل إلى الجنة ، لأن الجزاء من جنس العمل .
﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾
تفصيل بعد إجمال لقوله تعالى ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾
وفائدته : إذا جاء التفصيل بعد الإجمال ، ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة
إليه
وفيه دليل على أن العقل لا يستقل بإدراك تفاصيل الصراط المستقيم ، بل
هو مفتقر في ذلك إلى الشرع
ختمت الفاتحة بتقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف على أساس العلم والعمل :
المنعم عليهم بنعمة الإيمان والهداية علموا وعملوا
المغضوب عليهم : علموا الحق ولم يعملوا به وجحدوه
الضالين : يعملون بلا علم
في الآيتين إثبات للنبوة ، لأن تقسيم الناس بحسب اتباعهم للرسل أو مخالفتهم
مما يعين على السير على الصراط المستقيم : العلم بالهدى واتباعه ، والعلم
بالباطل واجتنابه
ذكر المنعم عليهم يُظهر صفات الكرم والحمد والرحمة ، وذكر المغضوب عليهم
والضالين يظهر صفات القدرة والمجد
في تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ، ما دلّ على أن النعمة المطلقة
هي الموجبة للفلاح الدائم ، وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر ، فكل الخلق في نعمة.
لا يكون العبد مُنعَما عليه بالنعمة المطلقة إلا بأمرين : علم بالحق ،
وعمل به ؛ علم يهدي وعمل يُرقّي
﴿ الذين أنعمت عليهم ﴾ ولم يقل : المنعم عليهم كما قال ﴿ المغضوب عليهم
﴾ وفيه :
أن أفعال الإحسان والجود تضاف إلى الله ، أما أفعال العدل والجزاء والعقوبة
فتبنى للمفعول ، وهذه هي عادة القرآن
أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها ، وأصل الشكر ذكر المنعِم
والعمل بطاعته ، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى
أن النعمة بالهداية لله وحده ، فاقتضى اختصاصه بها بأن يضاف بوصف الإفراد
، وأما المغضوب عليهم فإن الله يغضب عليهم ، ويغضب المؤمنون موافقة لغضب ربهم
أن المنعم عليهم في مقام الإشارة إليهم ، والإشادة بذكرهم ، أما المغضوب
عليهم فهم في مقام الإعراض وترك الالتفات إليهم
أسباب الخروج عن الصراط المستقيم ، والوقوع في شرك الشبهات والشهوات
: إما الجهل ، أو العناد والهوى
﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب
الصفة الأخرى ، فإن كل مغضوب عليه ضال ، وكل ضال مغضوب عليه ، ولكن ذكر كل طائفة بأشهر
وصفيها
﴿ المغضوب عليهم ﴾ التعبير باسم المفعول عنهم ، دليل على أن الغضب حاصل
من الله وأوليائه ، وفي حذف الفاعل إشعار بإهانتهم ، وتحقير وتصغير شأنهم
قدّم الله الغضب على الضلال ، لمجاورته للإنعام ، فإن الإنعام يقابل بالانتقام
، فناسب تقديمه
ولأن أمرهم أخطر ، وذنبهم أكبر ، لأن الضلال إذا كان بسبب الجهل ، فإنه
يرتفع بالعلم ،وأما إذا كان بسبب الهوى ، فإنه لا يكاد ينزع
في الآية تحذير علماء المسلمين وعبادهم من التشبه باليهود والنصارى في
اتباع الهوى والجهل
وفيها دلالة على أنه سيكون في الأمة افتراق وانحراف عن الصراط المستقيم
وفيها رد على من صحح دين اليهود والنصارى بعد بعثة النبي ، فهم ليسوا
على صراط مستقيم
وفيها دليل على أن من مات على اليهودية أو النصرانية ، فهو من أهل النار
وفيها رد على من قال بحرية الأديان ، أو دعا إلى تقاربها ، أو قال بعدم
نقضها وبطلانها