لهذه السورة الكريمة أكثر من عشرين اسما
، وذلك يدل على شرفها ، فإن كثرة الأسماء دالة على شرف المسمى
فاتحة الكتاب :
هو أشهر أسمائها ، ووجه التسمية : أنها
مفتتح القرآن ، وبها تفتتح الصلاة
أم القرآن : وجه تسميتها بذلك : اشتمالها على مقاصد
القرآن
السبع المثاني : قال تعالى ﴿وَلَقَد آتَيناكَ سَبعًا مِنَ
المَثاني وَالقُرآنَ العَظيمَ﴾[الحجر: ٨٧]
ذهب جمهور المفسرين إلى أن السبع المثاني هي سورة الفاتحة
سورة الصلاة :
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي... " الحديث
سورة الحمد : لافتتاحها به ، وغلبته عليها .
لها أسماء وردت في آثار لم يصح سندها ، وإن صح معناها : كالشفاء ، والشافية
ولها أسماء ليس لها أثر ، لكنها معان صحيحة مستنبطة من الآثار : الكافية
، الواقية ، الوافية
عدد آياتها :
سبع آيات بالاتفاق ، ومن شذّ لا يعتد بشذوذه
اختلفوا في الآية التي تكون بها السورة سبعا : قال بعضهم هي البسملة
﴿ ﷽ ﴾ ( قول قراء أهل الكوفة ) ، وقيل : السابعة ﴿ أنعمت عليهم ﴾ ( قول قراء أهل المدينة
)
نزولها :
الذي عليه جمهور أهل العلم وأكثر المفسرين أن سورة الفاتحة نزلت
بمكة ، فهي السبع المثاني التي وردت في سورة الحجر ، ﴿وَلَقَد آتَيناكَ سَبعًا مِنَ
المَثاني وَالقُرآنَ العَظيمَ﴾ ، وسورة الحجر مكية بلا خلاف .
فضلها :
هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي امتن الله على رسوله به ﴿وَلَقَد
آتَيناكَ سَبعًا مِنَ المَثاني وَالقُرآنَ العَظيمَ﴾
نور أوتيه رسول الله ﷺ لحديث " أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي
قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة "
أعظم سورة في القرآن وفي الكتب السماوية كلها لحديث " والذي نفسي
بيده ، ما أنزلت في التوراة ولا في الإنحيل ، ولا في الزبور ، ولا في الفرقان مثلها
"
ركن من أركان الصلاة لحديث " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
"
مقصد الفاتحة :
هو تحقيق التوجه إلى الله تعالى بكمال العبودية له وحده
، بإثبات استحقاقه لها ، لتفرده بالربوبية ، والإقرار له بالألوهية ، وسؤاله الهداية
اشتملت سورة الفاتحة على جميع مقاصد القرآن :
الثناء على الله بجميع المحامد ، وتنزيهه عن النقائص ، وإثبات تفرده بالألوهية
، وإثبات البعث والجزاء ،في قوله تعالى ﴿الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ الرَّحمنِ
الرَّحيمِ مالِكِ يَومِ الدّينِ
إشارة إلى نوع قصص القرآن في قوله ﴿ غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ﴾
منهج الوسطية في سورة الفاتحة :
رسم القرآن الكريم لنا هذا المنهج في شتى جوانبه ، أصولا وفروعا ، عقيدة
وعبادة ، خلقا وسلوكا ، تصورا وعملا ،
بدأ القرآن في رسم هذا المنهج من بدايته في أم الكتاب ، حيث إنها من أولها
إلى آخرها تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها .
أبرز آية ناطقة بذلك ﴿ اهدِنَا
الصِّراطَ المُستَقيمَ ، صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم
وَلَا الضّالّينَ ﴾ فصراط الذين أنعم الله عليهم هو منهج الوسط ، أما منهج المغضوب
عليهم يمثل التفريط ، بينما يمثل منهج الضالين الإفراط ، فالاستقامة تعني الوسطية ، كما توضحها آية الفاتحة
قال ابن عاشور : هذه السورة وضعت في أول السور ، لأنها تُنزّل منها منزل
ديباجة الخطبة أو الكتاب، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن ... وذلك شأن براعة الاستهلال
.
في افتتاح الكتاب العزيز بها برهان فضلها ورفعة قدرها ، وإشعار بيسر هذا
الدين وقربه من أفهام الخلق ، لأن هذا هو الطابع العام للسورة
في وضعها بداية المصحف ، إشارة أنه ينبغي البدء بالأهم قبل المهم ، وبالأصول
قبل الفروع
سورة الفاتحة شافية لأمراض القلوب والأبدان ، وحاجة القلوب إليها آكد
سورة الفاتحة أولها رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة ، والنعمة الحقيقية
تكون بالرحمة والهداية
تختص سورة الفاتحة أنها سورة المناجاة ، حيث يقرؤها المسلم في كل ركعة
من صلاته .
سورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن ، ولم ينزل الله مثلها في كتبه
تدبر سورة الفاتحة يوصل لمرتبة الإحسان ، حيث إن أول طريق لإحسان العبادة
هو أن يجمع المرء قلبه خال قراءة الفاتحة
اشتملت سورة الفاتحة على أعظم المقاصد : تحقيق كمال العبودية لله تعالى
تقرير توحيد الله بأنواعه : الربوبية والألوهية والأسماء والصفات
إثبات النبوة
أقسام الخلق
إثبات اليوم الآخر
تقرير الإيمان بالقدر ، بإثبات أن هداية القلوب لله وحده
أصول الأحكام : في الإقرار بالعبودية التامة لله
أصول الأخبار : لأن أخبار القرآن جاءت في بيان أقسام الخلق
الثلاثة :قسم عرفوا الحق وحادوا ، قسم جهلوا الحق
، وهم الضالون ، وقسم عرفوا الحق وعملوا به وهم المنعم عليهم
تظهر السورة سبق رحمة الله تعالى لغضبه ،
فقد ذكر تعالى رحمته في اسمي
﴿ الرحمن الرحيم ﴾ في البسملة ، ثم كررهما في بداية السورة ، قبل أن يذكر المغضوب عليهم
.
في سورة الفاتحة أركان التعبد القلبية :
المحبة في ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾
الرجاء في ﴿ الرحمن الرحيم ﴾
الخوف في ﴿ مالك يوم الدين ﴾
في سورة الفاتحة شرطي قبول العبادة
الإخلاص : في قوله تعالى ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ ، فتقديم المعمول
يفيد الحصر
المتابعة : لأن الله لا يقبل العمل إلا إذا كان على الصراط المستقيم ،
وهو صراط الذي أنعم الله عليهم ، وأولهم الأنبياء
في سورة الفاتحة ستة من أسماء الله الحسنى :
الله
الرب
الرحمن
الرحيم
مالك
الملك ( في قراءة سبعية أخرى )
في سورة الفاتحة أصول الأسماء الحسنى
الله : متضمن لصفات الألوهية
الرب : متضمن لصفات الربوبية
الرحمن : متضمن لصفات البر والجود والكرم
ذكر في سورة الفاتحة أعظم وأولى ما يذكر في موضعه :
الحمد : أكمل أنواع العبادة
الله : أعظم الأسماء الحسنى وأشملها
رب العالمين : أعظم دلائل قدرته وكماله واستحقاقه للعبادة
الرحمة : أقوى متعلق للعبد
مالك يوم الدين : أكبر مظاهر ربوبيته الشاملة
يوم الدين : أعظم الأيام
إياك نعبد : أعظم حقوق الله
إياك نستعين : أعظم حظوظ العبد
اهدنا الصراط المستقيم : أعظم الأدعية
الذين أنعمت عليهم : أفضل الناس
المغضوب عليهم / الضالين : أكثر الفرق ابتعادا عن الحق
في سورة الفاتحة بيان لأهمية الدعاء وشدة حاجة المسلم إليه ، ولذلك افتتح
الله تعالى كتابه في أول سورة منه بالدعاء، كما ختم به آخر سورة
في سورة الفاتحة آداب الدعاء :
الإخلاص ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾
المتابعة ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ... ﴾ الآية
الإلحاح فيه ؛ فسورة الفاتحة تقرأ في كل ركعة
الجزم في الدعاء والعزم فيه ؛ وذلك بطلب الهداية ورجائها ﴿ اهدنا الصراط
المستقيم ﴾
حضور القلب وعدم الغفلة ، وذلك من جهة تهيئ الداعي بالثناء على الله ،
والإقبال عليه
الدعاء للآخرين ، وإذا دعا المسلم لأخيه وكّل الله ملكا يقول له : ولك
بمثل
الدعاء بجوامع الكلم ، فقد جمع دعاء سورة الفاتحة خيري الدنيا والآخرة
الجمع بين الخوف والرجاء ، فيطلب النعمة ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ، صراط
الذين أنعمت عليهم ﴾
ويستدفع النقمة ﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾
يستحب للداعي أن يكون على طهارة ، وهو شرط في الصلاة
أن يقدم بين يدي دعائه التوبة ، كما في بعض أدعية الاستفتاح قبل قراءة
الفاتحة
سورة الفاتحة تخلية وتحلية :
تخلية من طريق الشيطان ( الاستعاذة ) إلى تحلية بالإنصراف لله رب العالمين
﴿ ﷽ ﴾
تخلية من الكفر إلى تحلية بالشكر والحمد ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾
تخلية من اليأس إلى تحلية بالثقة برحمة الله ﴿ الرحمن الرحيم ﴾
تخلية من الغفلة إلى تحلية باليقظة والاستعداد لليوم الآخر ﴿ مالك يوم
الدين ﴾
تخلية من الشرك إلى تحلية بإخلاص العبادة ﴿ إياك نعبد ﴾
تخلية من العجز إلى تحلية بالاستعانة بالله ﴿ وإياك نستعين ﴾
تخلية من الضلال إلى تحلية بسؤال الهداية ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾
تخلية من الجهل والعناد إلى تحلية بالعلم والاتباع
تخلية من طريق الضلال وأهله إلى تحلية باتباع طريق الهدى وأهله
﴿ ﷽ ﴾
الراجح وهو قول الجمهور أن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة ،
وبناء عليه فقراءتها سنة وليست وواجبة ، والسنة الإسرار بها
في البسملة تنبيه على أن العون التام والبركة إنما تكون من الله تعالى
، فلا تطلب من غيره .
البدء باسم الله رادع للمرء عن معصيته فيما يُقبل عليه ؛ فإن من عرف الله
تعالى استحى أن يبدأ فعله للمعصية باسمه .
على المؤمن أن يسعى بأن تكون أعماله التي يقوم بها في الطيب مجانسة لهذا
التعبير الطيب .
﴿ الرحمن الرحيم ﴾ صفتان للفظ الجلالة ، فيهما الدلالة على الذات والصفة
والأثر
﴿ الرحمن ﴾ ذو الرحمة الواسعة
، دال على الصفة القائمة به سبحانه
﴿ الرحيم ﴾ ذو الرحمة الواصلة ، دال على تعلق الرحمة بالمرحوم .
إذا جيء بـ ﴿ الرحمن ﴾ أو ﴿ الرحيم ﴾ لوحده ، لشمل الوصف والفعل ، لكن
إذا اقترنا فُسّر ﴿ الرحمن ﴾ بالوصف ، و ﴿ الرحيم ﴾ بالفعل
﴿ الرحمن ﴾ أوسع أسماء الله تعالى ، والرحمة أوسع صفاته ، والعرش أوسع
مخلوقاته .
﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ استوى بأوسع صفاته على أوسع مخلوقاته .
كل من استقرت في نفسه سعة رحمة الله ، لا يمكن أن يدب إليه اليأس ولو
مثقال ذرة ، فهو متفائل في سرائه وضرائه .
اختيار هذين الاسمين في استفتاح القرآن يدعو للاطمئنان ، ففيهما الجمال
والتهدئة والسكينة .
في اسمي ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ إشارة إلى ندب الخلق إلى التحلي بصفة الرحمة
.
﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾
الحمد : هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
المدح : مجرد الوصف بالكمال ، دون محبة وتعظيم .
﴿ الحمد ﴾ (( أل )) للاستغراق ، فلله المحامد كلها
اللام في ﴿ لله ﴾ ، للاستحقاق والاختصاص ، فالله تعالى مستحق للحمد ،
مختص به .
الله تعالى يحمد على كمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ويحمد على خلقه
ونعمته ، وعلى وحيه وهدايته ، وعلى قضائه وقدره .
الحمد أخص من الشكر ؛ لأن الحمد
لا يكون إلا باللسان
والشكر أخصّ من الحمد من حيث ما يقع عليه ، فالشكر لا يكون إلا على النعمة
قُدّم وصف الألوهية على وصف الربوبية ، لأن اسم ﴿ الله ﴾ علم له ، فهو
مختص به ، وتتبعه جميع الأسماء
الرب : من اجتمع فيه ثلاثة أوصاف : الخلق والملك والتدبير
﴿ رب العالمين ﴾ دليل على تفرد الله تعالى بالربوبية ، لأن العالمين كل
ما سوى الله
﴿ رب العالمين ﴾ فيه رد على المشركين الذين يؤمنون بالرب لكن يشركون معه
في العبادة ، فما دام ربهم جميعا فلا يستحق أحد العبادة غيره
في الآية إثبات النبوة ، فكونه رب العالمين ، لا يليق به سبحانه أن يترك
خلقه سدى ، لا يعرفهم عبر رسله ما ينفعهم .
فيها الرد على الملاحدة الذين يرون أن العالم ليس له رب ، وهذا مخالف
للعقول .
فيها رد على القدرية والجبرية ، فهو رب العالمين ، وبه يستعان على كل
شيء، وعلى العبد إخلاص العبادة له ، وسؤاله المعونة والهداية .
﴿ الرحمن الرحيم ﴾
في ذكر الاسمين ثناء على الله ، والثناء معناه : تكرير الحمد
لما كان في اتصافه ﷻ برب العالمين ترهيب وتخويف ، أتبعه بالرحمن الرحيم
لما فيه من الترغيب .
تقرر الآية نوعي تربية الله لخلقه :
تربية عامة : لجميع الخلق ، خلقه ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي
فيها بقاؤهم في الدنيا
ويدل عليه اسم ﴿ الرحمن ﴾
تربية خاصة : تربيته لأوليائه بالإيمان ، ويوفقهم له ، ويكمله لهم ، ويدفع
عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
﴿ الرحيم ﴾ على وزن فعيل ، يفيد الديمومة والاستمرار ، بمعنى أن رحمته
بالمؤمنين هي رحمة دائمة مستمرة لا تنقطع أبدا .
قدّم ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ لمعانٍ : أن رحمته ﷻ هي أهم مظاهر ربوبيته ، وأن
رحمته سبقت غضبه ، وأنه خلق الخلق رحمة بهم .
قرن تعالى بين ربوبيته ورحمته ﴿ رب العالمين ، الرحمن الرحيم ﴾ لأن ذكر
الربوبية والرحمة يؤدي إلى الحب ، فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها .
أعظم ما يستدر العبد به رحمة ربه : أن ينكسر بين يديه ، وأن يظهر عبوديته
له وذله وعجزه وفقره
على المربي أن يتحلّى بالرحمة ، فالمصلح ينبغي أن يكون رحيما ،
من تعلّق بصفة من صفاته ﷻ -التي يليق بالعباد التحلي بها - أخذته بيده
حتى تُدخله عليه .
في الآية تقرير لعقيدة الإيمان بالقدر ، لأن الإنسان يرجو رحمة الله تعالى
، وهو يعلم فقره إليه .
في الآية رد على الجهمية والمعتزلة ومنكري الصفات ، وعلى الخوارج الذين
يأخذون بجانب الخوف دون الرجاء .
﴿ مالك يوم الدين ﴾
هذه الآية تمجيد للرب ﷻ ، والتمجيد : التعظيم ، وهو هنا بإفراده بالملك
يومئذ بلا دعوى من أحد
في الآية إثبات اليوم الآخر ، والبعث ، والحساب والجزاء ، والرد على منكريه
ذكر أنه ﴿ مالك يوم الدين ﴾ بعد ذكر كونه ﴿ رب العالمين ﴾ بيان لكونه
تعالى ليس ربا للعالمين في الدنيا فحسب ، بل في الدنيا والآخرة، وأن مقتضى حمده ورحمته
وعدله أن يجازي العاملين على أعمالهم
خُصّ يوم الدين بإضافة الملك إليه ﷻ ، لخطورته وعظمه ، ولأنه ختام الأيام
وثمرتها ، ولأنه يظهر فيه ملك الله كاملا
من فقه اسم الله : المالك ، والملك ، وفهم أن الملك كله لله ، صحّح نظرته
للخلق، وعرف أنهم مهما بلغوا ، ومهما ملكوا من أموال ومناصب وألقاب ، إلا أنهم في حقيقة
أمرهم فقراء عاجزون مملوكون لربهم
الآية تدفعنا إلى أن نخاف الله تعالى في عباده ، وألا نخاف عباده فيه
سُمي يوم القيامة بيوم الدين ، لأنه يوم الجزاء بالعدل ويوم القهر ، ففيه
يدان الناس في الحقوق بعضهم من بعض ، ويدين الله الناس بأعمالهم فيجازيهم عليها
إذا كانت نعم الله تعالى تستحق الحمد ، فإن ملكه ليوم الدين محمدة يستحق
عليها الحمد الكثير ، لأن ملكيته لهذا اليوم هي التي حمت حق كل ضعيف ، وكل مظلوم ظلم
في الدنيا
في الآية إشارة إلى أن الحياتين ( الدنيا والآخرة ) متصلتان في حقيقتهما
، بينهما فاصل هو الموت
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾
هذه الآية سماها بعض العلماء "سر القرآن" فإليها يرجع فعل الإنسان
وهو التعبد، فالدين كله مرجعه إلى هذه الآية
في قوله تعالى ﴿ إياك نعبد ﴾ إثبات النبوة ، فإن طريق التعبد لا يعرف
إلا عن طريق رسله
في قوله ﴿ وإياك نستعين ﴾ إيمان بالقدر ، لأن العبد يطلب العون من الله
القادر على كل شيء، المتصرف كيف يشاء
قدّم المعمول على العامل ولم يقل " نعبدك ونستعين بك " دلالة
على الحصر والمعنى ، نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة ، وفيه الأدب مع الله ، بتقديم
اسمه على فعلهم ، وشدة العناية به
كرر الضمير "إياك" للدلالة على قوة الاقتضاء والتخصيص والاهتمام
في ﴿ إياك نعبد ﴾ إشارة لتحقيق معنى لا إله إلا الله ، فتقديم إياك نفي
: بالكفر بما يعبد من دون الله ، وفي " نعبد " إثبات وإفراده تعالى بالعبادة
الاستعانة الصادقة تجمع أصلين : الثقة بالله ، والاعتماد عليه
قدم العبادة على الاستعانة من باب تقديم المقاصد على الوسائل ، وتقديم
حق الخالق على حق المخلوق
عطف ﴿ إياك نستعين ﴾ على ﴿ إياك نعبد ﴾ يفيد : أن من سعى للخير فحقق العبادة
لله ، فإن الله يحقق له العون
درجات العون والولاية ، تتفاوت بحسب تفاوت الناس في العبادة ، فكلما كان
المرء أكثر تعبدا لله ، حصل له من العون والتأييد ما هو أكثر
في قوله ﴿ وإياك نستعين ﴾ تحقيق لكلمة لا حول ولا قوة إلا بالله
قوله ﴿ إياك نعبد ﴾ علاج للرياء ، لأن فيه تذكير بمقام الإخلاص
﴿ وإياك نستعين ﴾ علاج للكبر ، لأن فيه تذكير بحاجة العبد لربه
﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ فيها :
تذكير بأن هذا الدين الحنيف هو الرابطة بين المسلمين ، وقيمة الجماعة
في الإسلام ، والعمل على تقويتها
﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾
جاءت بعد ذكر الاستعانة ؛ فأعظم ما يُستعان بالله تعالى عليه ، الهداية
إلى الصراط المستقيم
﴿ اهدنا ﴾ في فاتحة الكتاب ، دليل على أن كتاب الله كتاب هداية ، فمن
طلب الهدى به هداه الله
في الآية تنبيه على بطلان البدع ووجوب متابعة النبي ﷺ لأن الله لا يقبل
العمل إلا إذا كان وفق الصراط المستقيم
الهداية مما فرض الله تعالى سؤاله وعظّم منته بها ، وهي أجلّ ما يطلب
، ونيلها أشرف ما يوهب
في الآية إشارة إلى إثبات النبوة ، لأن سؤال الله الهداية يستلزم إرسال
الرسل ، لأن هداية الدلالة والإرشاد إلا بإرسال الرسل
في الآية إيمان بالقدر ؛ لأن العبد يطلب الهداية ممن يملكها ، ويعترف
بقدرته عليها
في قوله ﴿ اهدنا ﴾ سؤال الهداية للجميع ، فيه إشارة إلى حرص المؤمن على
الدعوة ، والتفات المسلم لنفسه وإخوانه فيشملهم بالدعاء
سؤال الهداية يتضمن أمرين :
ثبتنا على الصراط المستقيم حتى لا نزيغ وننحرف عنه
قوّ هدايتنا ، فالهداية درجات ، والمهتدون طبقات
﴿ الصراط ﴾ وحّد الصراط لأنه واحد ، وعرّف مرتين : تعريف باللام ﴿ الصراط
﴾ ، وتعريف بالإضافة في الآية التالية ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ ، وذلك يفيد تعيينه
واختصاصه وأنه صراط واحد ، لأن المراد الصراط المعين الذي نصبه
تكرار ذكر الصراط مرتين ، فكأن المؤمنين كرروا طلب الهداية مرتين
الصراط في اللغة ما جمع خمسة أوصاف : أن يكون طريقا مستقيما ، سهلا ،
مسلوكا ، واسعا ، موصلا للمقصود
من سلك الصراط في الدنيا وثبت عليه ، ثبّته الله تعالى على الصراط في
الآخرة حتى يصل إلى الجنة ، لأن الجزاء من جنس العمل .
﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾
تفصيل بعد إجمال لقوله تعالى ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾
وفائدته : إذا جاء التفصيل بعد الإجمال ، ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة
إليه
وفيه دليل على أن العقل لا يستقل بإدراك تفاصيل الصراط المستقيم ، بل
هو مفتقر في ذلك إلى الشرع
ختمت الفاتحة بتقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف على أساس العلم والعمل :
المنعم عليهم بنعمة الإيمان والهداية علموا وعملوا
المغضوب عليهم : علموا الحق ولم يعملوا به وجحدوه
الضالين : يعملون بلا علم
في الآيتين إثبات للنبوة ، لأن تقسيم الناس بحسب اتباعهم للرسل أو مخالفتهم
مما يعين على السير على الصراط المستقيم : العلم بالهدى واتباعه ، والعلم
بالباطل واجتنابه
ذكر المنعم عليهم يُظهر صفات الكرم والحمد والرحمة ، وذكر المغضوب عليهم
والضالين يظهر صفات القدرة والمجد
في تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ، ما دلّ على أن النعمة المطلقة
هي الموجبة للفلاح الدائم ، وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر ، فكل الخلق في نعمة.
لا يكون العبد مُنعَما عليه بالنعمة المطلقة إلا بأمرين : علم بالحق ،
وعمل به ؛ علم يهدي وعمل يُرقّي
﴿ الذين أنعمت عليهم ﴾ ولم يقل : المنعم عليهم كما قال ﴿ المغضوب عليهم
﴾ وفيه :
أن أفعال الإحسان والجود تضاف إلى الله ، أما أفعال العدل والجزاء والعقوبة
فتبنى للمفعول ، وهذه هي عادة القرآن
أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها ، وأصل الشكر ذكر المنعِم
والعمل بطاعته ، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى
أن النعمة بالهداية لله وحده ، فاقتضى اختصاصه بها بأن يضاف بوصف الإفراد
، وأما المغضوب عليهم فإن الله يغضب عليهم ، ويغضب المؤمنون موافقة لغضب ربهم
أن المنعم عليهم في مقام الإشارة إليهم ، والإشادة بذكرهم ، أما المغضوب
عليهم فهم في مقام الإعراض وترك الالتفات إليهم
أسباب الخروج عن الصراط المستقيم ، والوقوع في شرك الشبهات والشهوات
: إما الجهل ، أو العناد والهوى
﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب
الصفة الأخرى ، فإن كل مغضوب عليه ضال ، وكل ضال مغضوب عليه ، ولكن ذكر كل طائفة بأشهر
وصفيها
﴿ المغضوب عليهم ﴾ التعبير باسم المفعول عنهم ، دليل على أن الغضب حاصل
من الله وأوليائه ، وفي حذف الفاعل إشعار بإهانتهم ، وتحقير وتصغير شأنهم
قدّم الله الغضب على الضلال ، لمجاورته للإنعام ، فإن الإنعام يقابل بالانتقام
، فناسب تقديمه
ولأن أمرهم أخطر ، وذنبهم أكبر ، لأن الضلال إذا كان بسبب الجهل ، فإنه
يرتفع بالعلم ،وأما إذا كان بسبب الهوى ، فإنه لا يكاد ينزع
في الآية تحذير علماء المسلمين وعبادهم من التشبه باليهود والنصارى في
اتباع الهوى والجهل
وفيها دلالة على أنه سيكون في الأمة افتراق وانحراف عن الصراط المستقيم
وفيها رد على من صحح دين اليهود والنصارى بعد بعثة النبي ، فهم ليسوا
على صراط مستقيم
وفيها دليل على أن من مات على اليهودية أو النصرانية ، فهو من أهل النار
وفيها رد على من قال بحرية الأديان ، أو دعا إلى تقاربها ، أو قال بعدم
نقضها وبطلانها