ضوابط المجالس القرآنية:
- الضابط الأول: لابد من تجريد القصد لله!
واعلم أن القرآن الكريم لا يفتح بصائره إلا للمقبلين عليه بإخلاص!
- الضابط الثاني: تَحَيُّنُ أوقاتِ الانشراح النفسي للقرآن، والإقبال الوجداني على الذِّكْر، ومَظَانِّ اليقظة الإيمانية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى نماذج من أحسن أوقات الذكر، وهي أوقات الغُدُوِّ والآصَال. فالغَدُوُّ أو الغَدَاةُ: هي ساعات أول النهار، من الفجر إلى أوائل وقت الضحى. وأما الآصال فمفرده: أصيل، وهو وقت ما بين العصر إلى الغروب.فهو سويعات آخر النهار، حيث يبرد حر الشمس، وتهدأ أشعتها، وتلين أضواؤها، وتطول الظلال وتمتد.
و عدم طول وقت المجلس الواحد بما يخرجه عن حده.
فإذا لم يكن سبيل إلى عقد مجلس القرآن بأحد هذين الوقتين؛ فليكن بعد المغرب، أي بين العشاءين، وهو وقت داخل أيضا في مسمى (العَشِيِّ)؛ لأن العَشِيَّ في الأصل من العَشْوَةِ وهي: بداية الظلمة، عند إقبال الليل وإدبار النهار
- الضابط الثالث: وهو مراعاة أدب المجلس، وذلك بالاعتدال في هيأة الجلوس بما يحفظ للعلم وقارَه، وللقرآن جلالَه
- الضابط الرابع: عدم عقد أكثر من لقاء واحد، أو لقاءين اثنين على الأكثر في الأسبوع الواحد،
- من لقاءات مجالس القرآن؛ بناء على منهج التَّخَوُّلِ في الموعظة، أي جعل تزود القلب من الإيمان على فترات منتظمة وغير متتابعة،؛ حتى لا يَكَلَّ ولا يَمَلَّ.
- - الضابط الخامس: احترام قواعد تدارس القرآن العظيم:
مما سبق بيانه مفصلا من الترتيل بمنهج التلقي، والتعلم والتعليم بمنهج التدارس، والتزكية بمنهج التدبر. وبهذا نفتح باب الضوابط الخاصة لإدارة المجلس وهي:
- الضابط السادس: مبادرة أحد الجلساء من أهل العلم أو أهل الحِلْم؛ لتسيير المجلس. فلا بد لمجلس الخير من شخص ينظم سيره، ويرتب أولوياته؛ تجنبا للفوضى والارتجال، أو الانزلاق إلى غير أهداف مجالس القرآن العظيم! وقد يكون هذا المسيِّر من أهل العلم، أو من أهل الصلاح والورع عموما. وقد صَحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: (المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!).
- الضابط السابع: أن يعمد إلى إشراك الجميع في عملية التدارس والتدبر.
فحضوره في الغالب إنما هو منهجي إداري. فلا ينبغي له أن يتفرد بالكلام إلا إذا آلت الأسئلة إليه وكان من أهل العلم. إذْ يجب التفريق والتمييز بين مجلس الوعظ، أو الدرس، أو المحاضرة، أو نحو ذلك؛ وبين مجلس التدارس. فالتدارس مشاركة كما تدل عليه صيغة (التفاعل) من عبارته.
ومن القواعد التربوية المساعدة على إشراك الجميع: الْحِرْصُ على عدم استفحال عدد الجلساء؛ حتى لا يكون جمهوراً غفيراً! إذْ هنالك وجب أن يُولَدَ مجلسٌ قرآني جديد! فرع عن الأول؛ لأن الجمهور الكثير إنما تؤطره المحاضرةُ، أو الخطبةُ، أو الدَّرْسُ؛ لا (التَّدارُسُ)!
- الضابط الثامن: تجنيب الجلساء الدخولَ في الجَدَلِ العقيم!
فما أهلكَ كثيرا من الناس إلا الجدلُ! وفي الأثر عن بعض السلف الصالح: (إذا أراد الله بقوم سوءا سلَّط عليهم الجدل، ومنعهم العمل!)
- الضابط العاشر: تحديد أهداف المجلس من التدارس، والتذكير بذلك من حين لآخر.
وهو تحصيل التزكية للقلب بكتاب الله تعالى، والتخلق بأخلاق القرآن العظيم، من خلال مسالك التَّدَبُّر والتفكر
وهي الحذَرُ من استغراق الوقت كله في التفسير، وتتبع أقوال المفسرين من دقائق اللغات والبلاغة والإعراب، وتفاصيل الخلافات الكلامية، وتفاريع الأحكام الفقهية
فلا ينبغي أن ننسى أن غاية (مجالس القرآن) إنما هو التربية والتزكية، أي تحصيل (الربَّانِيَّة) لا تحصيل (العالِمِيَّة). ويكفيك من العلم لتحصيل الربانية ما يعرفك بالله رب العالمين!
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟!(القمر:17) فمن أراد القرآنَ للذِّكْرِ والذكرى والتربية والتزكية؛ فإنما سبيله اليُسْرُ والبساطة،
- الضابط الحادي عشر: ومن هنا فالاقتراح الأوفق للمقصود إنما هو أن يُعْتَمَدَ تفسيرٌ مختَصَرٌ من ذلك كله،
- مما تلقته الأمة بالقبول وأجمع على صحته السَّلَفُ والخَلَفُ. وليس كتفسير الإمام أبي جعفر الطبري(ت:310هـ) رحمه الله أوفى بالمقصود.
ويُعْتَمَدُ مختصَرُه فقط دون الأصل؛ لما امتاز به المختصر الذي جمع خلاصة ما ذهب إليه الإمام الطبري، مما أجمع عليه أهل التأويل للآية، أو ما عليه جمهورهم، أو ما رجحه هو رحمه الله من القول والبيان عند الاختلاف(). فإن لم يكن فيلتجأ إلى غيره من المختصرات الجيدة، كمختصر تفسير ابن كثير.
- الضابط الثاني عشر: وهكذا فلْيُقْرَأ القرآنُ أولا!
مما هو مقصود بالتدارس لذلك المجلس. ويمكن أن تُتَداولَ التلاوةُ بين جميع الحضور أو بين أغلبهم، كما يمكن أن يُكْتَفَى بتلاوة أحدهم فقط، حسب ظروف المجتمعين.
كما أن تكرار الآيات نفسها التي هي مقرر المدارسة لتلك الحصة أعْوَنُ للقلب على التفقه. والتلاوة – بضوابطها المذكورة من قبل- عبادة رفيعة جدا؛ إذْ تهيء القلب للتلقي عن الله! فلا ينبغي الاستهانة بها وتجاوزها في مجالس القرآن!
- الضابط الثالث عشر: فإذا تمت حصة التلاوة والاستماع والإنصات إلى كتاب الله، كما يليق بكلام الله؛ فليشرع في قراءة خلاصة التفسير قراءةً مسموعة هادئة مفصَّلَةً؛
- الضابط الرابع عشر: تَنَاوُلُ قَدْرٍ قليل من الآيات يُشَكِّلُ معنى يحسن السكوت عليه، والوقوف عنده.
سواء كان آية واحدة، أو ثلاث آيات، أو خَمْساً، أو سبعا. بشرط ألا يتعدى المقدار المدروس من ذلك كله نِصْفَ ثُمُن الحزب، بالتحزيب المتداول للقرآن الكريم، المطبوع في المصاحف بعلاماته المعروفة(). فَيُقْرَأُ ما ورد فيها من التفسير.
- الضابط الخامس عشر: يُتَحَقَّقُ من الفهم العام للمعاني التي وردت بها،
وأن أهل المجلس على إدراك حسن للمقصود. ويمكن أن تثار الأسئلة حول ما أشكل منها؛ للوصول إلى بيانٍ أشمل وأوضح.
- - الضابط السادس عشر: فإذا اتضح المعنى؛ وجب - بعد ذلك مباشرة - الدخول في محاولة التعرف على الهُدَى المنهاجي للآية أو الآيات،
وهو عَيْنُ الحِكَم المطلوب تعلُّمُها، مما ورد في آيات وظائف النبوة: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَوَالْحِكْمَةَ). وذلك بمحاولة استنباط الحقائق الإيمانية التي تتضمنها، والأحوال الخُلُقِيَّة التي تُرْشِدُ إليها، ومحاولة عدها باللسان، وإحصائها بالوجدان، وتداول ذلك بين سائر الْجُلَسَاءِ؛ حتى ترسخ بالقلب وتتضح صورتها بما يساعد على تَدَبُّرِها.
- - الضابط السابع عشر: وبمعرفة ما تيسر من الحِكَم والمقاصد نفتح باب التدبر للآيات،
والتفكر في خلق الأنفس والأرض والسماوات. وذلك لغاية التخلق بأخلاق القرآن الكريم، والاتصاف السلوكي بِحِكَمِه العظيمة! والتفكر والتدبر – إذا خلص كلاهما لله- يورثان التخلق بأخلاق القرآن بصورة تلقائية، وبلا كلفة، كما بيناه من قبل بشواهده. ثم إن التدبر والتفكر أيضا – بما ينطويان عليه من إبصار للآيات()- يساعدان على معرفة السبل الكفيلة بتذليل النفس وترويضها؛ لقبول هذا الخُلُقِ الرباني أو ذاك، والتحلي بتلك الخصلة النبوية أو تلك.
- - الضابط الثامن عشر: فإذا تمت مدارسة السورة بأكملها، بهذا المنهج المُجَزِّئِ للوحدات أو الفقرات من كل سورة،
في مجلس واحد، إن كانت من السور القصيرة جدا، أو عبر عدة مجالس إن كانت من السور المتوسطة أو من الطوال؛ فلا بد - بعد ذلك - من محاولة قطف الثمرات التالية من ثمار المدارسة، وهي:
أ- التعرف على القضايا الأساسية التي تعالجها السورة على الإجمال، وهي حقائقها الإيمانية الكبرى، التي تدور بفلك المحور الرئيس في السورة. ثم من خلال معرفة تلك القضايا والحقائق يمكن:
ب- التعرف على المحور الرئيس للسورة على الإجمال. فلكل سورة من سور القرآن العظيم شخصيتها المستقلة، التي بها تتميز عن غيرها في نظمها السالكِ لها بِعَقْدِ الكتاب الحكيم؛ لأن هذا وذاك هو مما يساعد - بإذن الله - على التَّمْسِيكِ بالكتاب؛ لأنه يُمَكِّنُكَ - في كل وقت وحين، بالليل أو بالنهار - من المراجعة والتقويم لِخُلُقِكَ وسلوكك، ولمستواك التربوي عموما، في ضوء ما تَحَصَّلَ لديك من الحِكَم والحقائق الإيمانية، من هذه السورة أو تلك. فضبط المحور الرئيس للسورة، مع ما يدور حوله من قضاياها الأساسية؛ يساعد على طول التدبر للآيات، والتذكر لحقائقها الإيمانية باستمرار؛ حتى بعد انفضاض المجلس، حيث تنطبع المعاني الربانية بالقلب الصافي المتجردِ لله تجردَ افتقارٍ وإخلاص. فإذا اكتمل لديك تدارس القرآن العظيم بهذا المنهج وتكرر؛ صارت خريطته الكلية مرسومة على قلبك بإذن الله؛ لِمَا تلقيت من حقائقه الإيمانية عن الله جل ثناؤه، في مجالس الملائكة! مع جلسائك من (أهل القرآن: أهل الله وخاصته)؛ فلا تتصرف في سلوكك وخلقك بعدها إن شاء الله إلا بخير! وهذا من أهم مقاصد التدارس لكتاب الله تعالى.
- - الضابط التاسع عشر، وهو:
- - الضابط الجامع:
والضابط الكلي، الجامع لضمان سير مجالس القرآن ونجاحها هو: الحفاظ على ميثاق القرآن العظيم، والالتزام به بقوة!
إذ بذلك يعرف الجليس الصادق من غيره. وإنما برهانُ صِدْقِ الجليس، وحقيقةُ انتسابه إلى أهل الله من (جلساء الملائكة)،
ومصداقية ذلك كله متوقفة على مدى التزامه بميثاق القرآن العظيم. وهو عَهْدَان: عَهْدُ فِعْلٍ وعَهْدُ تَرْكٍ. فأما عهد الفعل فهو يتلخص في ثلاثة التزامات:
- الالتزام الأول: الحفاظ على أوقات الصلوات المفروضة بالمسجد، من الفجر إلى العشاء؛ إلا لضرورة شرعية. مع تأكيد النفس وتوطينها على صلاة الفجر وصلاة العشاء، والاجتهاد في ذلك كله لإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، على قدر الإمكان.() فالصلاة هي خير أعمال المسلم على الإطلاق كما تواتر معناه بطرق شتى! وهي العبادة الوحيدة الحاكمة على ما سواها من الأعمال والعبادات بإطلاق! إذا استقامت للمؤمن حقيقتُها وانكشف له سِرُّها؛ استقام له كل شيء من دينه ودنياه! كما فصلناه بأدلته بمحله، فتأمل!() ويكفيك من ذلك قولهe: (استقيموا ولن تحصوا! واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة! ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن!).
- الالتزام الثاني: الحفاظ على تلاوة جزء من القرآن الكريم لكل يوم، على الدوام، في الحَضَرِ والسَّفَر سواء! حتى يكون ختم القرآن لكل فرد من أفراد المجلس عند نهاية كل شهر. وبهذا يضمن العبد السالك إلى الله زادا إيمانيا يوميا، ومنهجا لتذكر حقائق الإيمان التي استفادها من مجالس التدارس القرآني. فالتلاوة المستمرة تذكيرٌ وأيُّ تذكير! لمن ذاق حقيقتَها وشاهد فضيلتَها.
- والالتزام الثالث: الاجتهاد لضم جليس جديد، أو جلساء جُدُد؛ إلى مجالس القرآن، متى سنحت الفرصة، أو إنشاء مجلس جديد على التمام. وتلك نعمة إيمانية – إن أكرمك الله بها - ولا كأي نعمة!
فالحرص على نشر الخير والدعوة إليه؛ سِمَةٌ أساسيةٌ للمؤمن الصادق، مهما لقي في سبيل ذلك ما لقي من الحرج والعنت.
والآية التي هي الشِّعَارُ الجامِعُ لذلك كله من كتاب الله جل ثناؤه، هي ما سبقت الإشارة إليه من قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170).
تَمْسِيكٌ بالكتاب أولا: وهو الأخذ بحقائقه الإيمانية بقوة،
وإقامة للصلاة ثانيا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها،
ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير. (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).
- القرآن لا يفتح أبواب أسراره إلا لمن أقبل عليه بشروطه. وإنما شروطه أمران: إخلاص القصد لله تعالى، ثم أخذ الكتاب بقوة!
فأما بيان الشرط الأول: فبإخلاص القصد عند بدء السير إلى منازل القرآن، وبتحقيق الصدق في طلب مجالسه؛ يفتح الله لك أبواب الخير، ويمهد لك الطريق إلى الجنة،
وأما بيان الشرط الثاني: فإن القرآن لا يستقيم سَيْرُ العَبْدِ بين مَسَالِكِهِ إلا إذا أخذه بقوة! ذلك منهج الأنبياء والصِّدِّيقِين.
فـ (الأخذ بقوة) هو: الأخذ بعزم وبحزم، والصبر على حمل الأمانة وثقل الرسالة! والصبر على طول الطريق! والثبات على الحق! فالشيطان لك بالمرصاد، يثبطك، ويبطئك عن المضي في طريق الله؛ فالصَّبْرَ الصَّبْرَ على دوام ذكر الله في صحبة الصالحين، ومَعِيَّةِ الربانيين، بمنهج القرآن، وبرنامج القرآن.
ليست هناك تعليقات